فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{أَلَمْ تَرَ}.
الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وقد عُلّق بما بعده من قوله تعالى: {كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا} أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به {كَلِمَةً طَيّبَةً} منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} كقولك: شرّف الأميرُ زيدًا كساه حُلةً وحمله على فرس، ويجوز أن يكون {كلمة} بدلًا من {مثلًا} و{كشجرة} صفتُها، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أولَ مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما، أعني مثلًا لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة، وقد قرئت بالرفع على الابتداء {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي ضارب بعُروقه في الأرض، وقرأ أنسُ بنُ مالك رضي الله عنه كشجرة طيبة ثابتٍ أصلُها، وقراءةُ الجماعة أقوى سبكًا وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى: {وَفَرْعُهَا} أي أعلاها {فِى السماء} في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع.
{تُؤْتِى أُكُلَهَا}.
تعطي ثمرَها {كُلَّ حِينٍ} وقّته الله تعالى لإثمارها {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادة خالقِها، والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعًا أو شجرة في الجنة {وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير، فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه، أو تكذيبُ الحق، أو ما يعم الكل، أو كلُّ كلمةٍ قبيحة {كَشَجَرَةٍ} أي كمثل شجرة خبيثةٍ، قيل: هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما، وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد {خَبِيثَةٍ اجتثت} استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية {مِن فَوْقِ الأرض} لكون عروقها قريبةً منه {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} استقرارٍ عليها.
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة {فِى الْحَياة الدُنيا} فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود {وَفِي الأخرة} فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر. روي أنه عليه الصلاة والسلام ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال: «ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيُجلسانه في قبره، فيقولان: مَنْ ربك وما دينُك ومن نبيُّك؟ فيقول: ربي الله وديني الإسلامُ ونبيّي محمد عليه الصلاة والسلام، فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي» فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين. قال الثعلبي في تفسيره: أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة ستٍ وثمانين وثلاثمائة، قال: سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول: سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول: رأيت يزيدَ بن هارون في منامي بعد موته فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ، فقلت لهما: ألمِثلي يقال هذا، وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة؟ فدهبا.
{وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم، والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ، أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يتثبّت في مواقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق، فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان والراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخلةً تحت ما لا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلًا {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاء} من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك، وفي إظهار الاسمِ الجليل في الموضعين من الفخامة وتربيةِ المهابة ما لا يخفى، مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ}.
الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقيل: لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى: {كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلًا} أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به {كَلِمَةً طَيّبَةً} نصب على البدلية من {مَثَلًا} و{ضُرِبَ} متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي والمهدوي وأبو البقاء، وهو على ما قيل: بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد.
واعترض عليه بأنه لا معنى لقولك ضرب الله كلمة طيبة إلا بضم {مَثَلًا} إليه فمثلًا هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره، ولا يخفى أن هذا بناءًا على ظاهر قول النحاة: إن المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم، وقوله سبحانه: {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} صفة {كَلِمَةَ} أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة، وجوز أن يكون كلمة منصوبًا بمضمر و{ضُرِبَ} أيضًا متعدية لواحد أي جعل كلمة ظيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه: {ضَرَبَ الله مَثَلًا} كقولك: شرف الأمير زيدًا كساه حلة وحمله على فرس.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وأجاب عنه السمين بما فيه بحث، وجوز أيضًا أن يكون ضرب المذكور متعديًا إلى مفعولين إما لكونه بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني {مَثَلًا} لئلا يبعد عن صفته التي هي {كَشَجَرَةٍ} قيل: ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلًا لا كلمة طيبة مثلًا لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أولها مثلًا.
وقرئ {كَلِمَةَ} بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر {كَشَجَرَةٍ} ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و{كَشَجَرَةٍ} صفة أخرى {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي ضارب بعروقه في الأرض.
وقرأ أنس بن مالك {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ثَابِتٌ أَصْلُهَا} وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى.
قال ابن جني: لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجربت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل، والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظًا ومعنى فالأحسن تقديم الأصل عناية به، ومن ثم قالوا: زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث أن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول، ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظًا فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلًا له وفضلة ملحقة به، وكذلك قولك: مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع ما في التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجهًا حسنًا، وهو أن {ثَابِتٌ أَصْلُهَا} صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسمًا مفردًا لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد وذاك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} فإنه جملة قطعًا، وقال بعضهم: إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ما أشير إليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب.
وقال ابن تمجيد: هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صورة ومرة معنى مع ما فيه من الإجمال والتفصيل كما في {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] فإنه لما قيل: {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ ثَابِتٌ} تبادر الذهن من جعل {ثَابِتٌ} صفة لشجرة صورة أن شيئًا من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل: {أَصْلُهَا} علم صريحًا أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل: كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر {وَفَرْعُهَا} أي أعلاها من قولهم: فرع الجبل إذا علاه، وسمى الأعلى فرعًا لتفرعه على الأصل ولهذا أفرد وإلا فكل شجرة لها فروع وأغصان، ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والإضافة حيث لا عهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الأصل وإضافته على ما اشتهر تفيد العموم فكأنه قيل: وفروعها {فِى السماء} أي في جهة العلو.
{تُؤْتِى أُكُلَهَا} تعطى ثمرها {كُلَّ حِينٍ} وقت أقته الله تعالى لإثمارها {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادة خالقها جل شأنه، والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله على ما أخرجه البيهقي.
وغيره عن ابن عباس، وعن الأصم أنها القرآن، وعن ابن بحر دعوة الإسلام، وقيل: التسبيح والتنزيه، وقيل: الثناء على الله تعالى مطلقًا، وقيل: كل كلمة حسنة، وقيل: جميع الطاعات، وقيل: المؤمن نفسه، وأخرجه ابن جرير.
وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر، وكأن إطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه السلام، والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الأكثرين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد.
وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال: كنا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب فقال أنس لأبي العالية: كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه {ضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} [إبراهيم: 24] وأخرج الترمذي أيضًا والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال: {مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ حتى بَلَغَ كُلَّ حِينٍ} قال: هي النخلة».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أيضًا أنها شجرة في الجنة، وقيل: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك.
وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه.
ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشأها وهو الإيمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الأعمال الصالحة والأفعال الزكية يصعد إلى السماء، وما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين، ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل.
والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين، فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال: إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك، واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال: إن النخلة ما بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، وأفتى رضي الله تعالى عنه لرجل حلف أن لا يكلم أخاه حينًا أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنيفة، فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الإثبات ستة أشهر، وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف إليه لأنه الوسط ولأن القليل لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والأربعون سنة لا تقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد، ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلانًا حينًا مثلًا، وهذا بخلاف لأصومن حينًا فإن له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله، ومتى نوى الحالف مقدارًا معينًا في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلًا منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لا يخفى على المتتبع فليتذكر {وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}.
وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وقرئ {وَمَثَلُ} بالنصب عطفًا على {كَلِمَةً طَيّبَةً} [إبراهيم: 24] وقرأ أبي {وَضَرَبَ الله مَثَلًا كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة، والمثل بمعنى الصفة الغريبة {اجتثت} أي اقتلعت من أصلها، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها {مِن فَوْقِ الأرض} لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي استقرار على الأرض، والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة.
وروي ذلك أيضًا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك أنها الكشوث، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر:
فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق ** ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر

وقال الزجاج وفرقه شجرة الثوم، وقيل: شجرة الشوك، وقيل: الطحلب، وقيل: الكمأة وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت، وقال ابن عطية: الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضًا تفسير هذه الشجرة بالكافر.
وروى الإمامية وأنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير السجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلي كرم الله تعالى وجهه.
وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما، وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية.
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قلب العباد ظهرًا وبطنًا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنًا فكان خير العرب قريشًا وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه: {مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} [إبراهيم: 24]» لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق المخالف، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه.
وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصًا وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها.
الصفة الأولى: كونها {طَيّبَةً} وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب.
والثانية: كون {أَصْلُهَا} وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك.
والثالثة: كون {وَلاَ في السماء} وهو أيضًا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب.
والرابعة: كونها {دائمة الثمر} لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضًا إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذٍ.
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء، وأيضًا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلى جلال الله تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلًا زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله تعالى» ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية، وكذا محبة الله تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة والسلام، «والشفقة على خلق الله تعالى» ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخير إلى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلًا فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى.